فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{إنَّمَا يُؤْمنُ بآيَاتنَا الَّذينَ إذَا ذُكّرُوا بهَا خَرُّوا سُجَّدًا}.
إشارة إلى أن الإيمان بالآيات كالحاصل، وإنما ينساه البعض فإذا ذكر بها خرّ ساجدًا له، يعني انقادت أعضاؤه له، وسبح بحمده، يعني ويحرك لسانه بتنزيهه عن الشرك، وهم لا يستكبرون، يعني وكان قلبه خاشعًا لا يتكبر ومن لا يستكبر عن عبادته فهو المؤمن حقًا.
{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَن الْمَضَاجع يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ (16)} يعني بالليل قليلًا ما يهجعون وقوله: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} أي يصلون، فإن الدعاء والصلاة من باب واحد في المعنى أو يطلبونه وهذا لا ينافي الأول لأن الطلب قد يكون بالصلاة، والحمل على الأول أولى لأنه قال بعده: {وَممَّا رزقناهم يُنفقُونَ} وفي أكثر المواضع التي ذكر فيها الزكاة ذكر الصلاة قبلها كقوله تعالى: {وَيُقيمُونَ الصلاة وَممَّا رزقناهم يُنفقُونَ} [البقرة: 3] وقوله: {خَوْفًا وَطَمَعًا} يحتمل أن يكون مفعولًا له ويحتمل أن يكون حالًا، أي خائفين طامعين كقولك جاؤني زورًا أي زائرين، وكأن في الآية الأولى إشارة إلى المرتبة العالية وهي العبادة لوجه الله تعالى مع الذهول عن الخوف والطمع بدليل قوله تعالى: {إذَا ذُكّرُوا بهَا خَرُّوا} [السجدة: 15] فإنه يدل على أن عند مجرد الذكر يوجد منهم السجود وإن لم يكن خوف وطمع.
وفي الآية الثانية إشارة إلى المرتبتين الأخيرتين وهي العبادة خوفًا كمن يخدم الملك الجبار مخافة سطوته أو يخدم الملك الجواد طمعًا في بره، ثم بين ما يكون لهم جزاء فعلهم.
{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفيَ لَهُمْ منْ قُرَّة أَعْيُنٍ جَزَاءً بمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} يعني مما تقر العين عنده ولا تلتفت إلى غيره يقال إن هذا لا يدخل في عيني، يعني عيني تطلع إلى غيره، فإذا لم يبق تطلع للعين إلى شيء آخر لم يبق للعين مسرح إلى غيره فتقر جزاء بحكم الوعد، وهذا فيه لطيفة وهي أن من العبد شيئًا وهو العمل الصالح، ومن الله أشياء سابقة من الخلق والرزق وغيرهما وأشياء لاحقة من الثواب والإكرام، فلله تعالى أن يقول جزاء الإحسان إحسان، وأنا أحسنت أولا والعبد أحسن في مقابلته، فالثواب تفضل ومنحة من غير عوض، وله أن يقول جعلت الأول تفضلًا لا أطلب عليه جزاء، فإذا أتى العبد بالعمل الصالح فليس عليه شيء لأني أبرأته مما عليه من النعم فكان هو آتيًا بالحسنة ابتداء، وجزاء الإحسان إحسان، فأجعل الثواب جزاء كلاهما جائز، لكن غاية الكرم أن يجعل الأول هبة ويجعل الثاني مقابلًا وعوضًا لأن العبد ضعيف لو قيل له بأن فعلك جزاء فلا تستحق جزاء، وإنما الله يتفضل يثق ولكن لا يطمئن قلبه، وإذا قيل له الأول غير محسوب عليك والذي أتيت به أنت به باد ولك عليه استحقاق ثواب يثق ويطمئن ثم إذا عرف أن هذا من فضل الله فالواجب من جانب العبد أن يقول فعلى جزاء نعم الله السابقة ولا أستحق به جزاء، فإذا أثابه الله تعالى يقول الذي أتيت به كان جزاء، وهذا ابتداء إحسان من الله تعالى يستحق حمدًا وشكرًا فيأتي بحسنة فيقول الله إني أحسنت إليه جزاء فعله الأول وما فعلت أولا لا أطلب له جزاء فيجازيه ثالثًا فيشكر العبد ثالثًا فيجازيه رابعًا وعلى هذا لا تنقطع المعاملة بين العبد والرب، ومثله في الشاهد اثنان تحابا فأهدى أحدهما إلى الآخر هدية ونسيها والمهدي إليه يتذكرها فأهدى إلى المهدي عوضًا فرآه المهدي الأول ابتداء لنسيانه ما أهداه إليه فجازاه بهدية فقال المحب الآخر ما أهديته كان جزاء لهديته السابقة، وهذه هدية ما عوضتها فيعوض ويعوض عنه المحب الآخر ويتسلسل الأمر بينهما ولا ينقطع التهادي والتحاب، بخلاف من أرسل إلى واحد هدية وهو يتذكرها فإذا بعث إليه المهدي إليه عوضًا يقول المهدي هذا عوض ما أهديت إليه فيسكت ويترك الإهداء فينقطع، واعلم أن التكاليف يوم القيامة، وإن ارتفعت لكن الذكر والشكر والعبادة لا ترتفع بل العبد يعبد ربه في الجنة أكثر مما يعبده في الدنيا، وكيف لا وقد صار حاله مثل حال الملائكة الذين قال في حقهم {يُسَبّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] غاية ما في الباب أن العبادة ليست عليهم بتكليف بل هي بمقتضى الطبع ومن جملة الأسباب الموجبة لدوام نعيم الجنة هذا وكيف لا وخدمة الملوك لذة وشرف فلا تترك وإن قرب العبد منه بل تزداد لذتها. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تَعَالَى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجع}.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّه بْنُ مُحَمَّدٍ بْن إسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبي الرَّبيع الْجُرْجَانيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَاصم بْن أَبي النَّجُود عَنْ أَبي وَائلٍ عَنْ مُعَاذ بْن جَبَلٍ في قَوْله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجع} قَالَ: كُنْت مَعَ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ في سَفَرٍ، فَأَصْبَحْت يَوْمًا قَريبًا منْهُ وَنَحْنُ نَسيرُ، فَقُلْت: يَا نَبيَّ اللَّه أَخْبرْني بعَمَلٍ يُدْخلُني الْجَنَّةَ وَيُبَاعدُني منْ النَّار قَالَ: لَقَدْ سَأَلْت عَنْ عَظيمٍ وَإنَّهُ لَيَسيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْه، تَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا تُشْركَ به شَيْئًا وَتُقيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتي الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ ثُمَّ قَالَ: أَلَا أَدُلُّك عَلَى أَبْوَابٍ منْ الْخَيْر؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفئُ الْخَطيئَةَ وَصَلَاةُ الرَّجُل في جَوْف اللَّيْل، ثُمَّ قَرَأَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجع} حَتَّى بَلَغَ: {جَزَاءً بمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبرُك برَأْس الْأَمْر وَعَمُوده وَذُرْوَة سَنَامه؟ قُلْت: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّه قَالَ: رَأْسُهُ الْإسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذرْوَةُ سَنَامه الْجهَادُ في سَبيل اللَّه، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبرُك بمَلَاك ذَلكَ كُلّه؟ قُلْت: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّه فَأَخَذَ بلسَانه فَقَالَ: اُكْفُفْ عَلَيْك هَذَا قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّه إنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بمَا نَتَكَلَّمُ به؟ قَالَ: ثَكلَتْك أُمُّك يَا مُعَاذُ وَهَلْ يُكَبُّ النَّاسُ عَلَى وُجُوههمْ أَوْ عَلَى مَنَاخرهمْ إلَّا حَصَائدَ أَلْسنَتهمْ؟!.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّه بْنُ مُحَمَّد بْن إسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبي الرَّبيع قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: تَلَا قَتَادَةُ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفيَ لَهُمْ منْ قُرَّة أَعْيُنٍ} قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «أَعْدَدْت لعبَادي الصَّالحينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْب بَشَرٍ» وَرَوَى أَبُو إسْحَاقَ عَنْ أَبي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ: للَّذينَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجع مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْب بَشَرٍ، ثُمَّ تَلَا: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفيَ لَهُمْ منْ قُرَّة أَعْيُنٍ}.
وَرُويَ عَنْ مُجَاهدٍ وَعَطَاءٍ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجع} قَالَا: الْعشَاءُ الْآخرَةُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجع} كَانُوا يَنْتَفلُونَ بَيْنَ الْمَغْرب وَالْعشَاء.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ في قَوْله: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} إنَّهُمْ يَذْكُرُونَ اللَّهَ بالدُّعَاء وَالتَّعْظيم.
وَقَالَ قَتَادَةُ: خَوْفًا منْ عَذَاب اللَّه وَطَمَعًا في رَحْمَة اللَّه {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ} في طَاعَة اللَّه. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجع يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ} فيهَا ثَلَاثُ مَسَائلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَضَاجعُ جَمْعُ مَضْجَعٍ، وَهيَ مَوَاضعُ النَّوْم.
وَيُحْتَمَلُ وَقْتُ الاضْطجَاع، وَلَكنَّهُ مَجَازٌ.
وَالْحَقيقَةُ أَوْلَى، وَذَلكَ كنَايَةً عَنْ السَّهَر في طَاعَة اللَّه تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانيَةُ: إلَى أَيّ طَاعَة اللَّه تَتَجَافَى؟ وَفيه قَوْلَان: أَحَدُهُمَا: ذكْرُ اللَّه.
وَالْآخَرُ الصَّلَاةُ.
وَكلَاهُمَا صَحيحٌ، إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا عَامٌّ، وَالْآخَرَ خَاصٌّ.
فَإنْ قُلْنَا: إنَّ ذَلكَ في الصَّلَاة، فَأَيُّ صَلَاةٍ هيَ؟ في ذَلكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ، وَهيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالثَةُ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا النَّفَلُ بَيْنَ الْمَغْرب وَالْعشَاء؛ قَالَ قَتَادَةُ.
الثَّاني: أَنَّهَا الْعَتَمَةُ؛ قَالَهُ أَنَسٌ وَعَطَاءٌ.
الثَّالثُ: أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَتَمَة وَالصُّبْح في جَمَاعَةٍ؛ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء.
الرَّابعُ: أَنَّهُ قيَامُ اللَّيْل؛ قَالَهُ مُجَاهدٌ، وَالْأَوْزَاعيُّ، وَمَالكٌ.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: هُوَ قيَامُ اللَّيْل بَعْدَ النَّوْم، وَذَلكَ أَثْقَلُهُ عَلَى النَّاس، وَمَتَى كَانَ النَّوْمُ حينَئذٍ أَحَبَّ فَالصَّلَاةُ حينَئذٍ أَحَبُّ وَأَوْلَى.
وَالْقَوْلُ في صَلَاة اللَّيْل مَضَى، وَسَيَأْتي في سُورَة الزُّمَر إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله: {إنَّمَا يُؤْمنُ بآيَاتنَا}.
فيه وجهان:
أحدهما: يصدق بحجتنا، قاله ابن شجرة.
الثاني: يصدق بالقرآن وآياته، قاله ابن جبير.
{الَّذينَ إذَا ذُكّرُوا بهَا خَرُّوا سُجَّدًا} فيه وجهان:
أحدهما: الذين إذا دعوا إلى الصلوات الخمس بالأذان أو الإقامة أجابوا إليها قاله أبو معاذ، لأن المنافقين كانوا إذا أقيمت الصلاة خرجوا من أبواب المساجد.
الثاني: إذا قرئت عليهم آيات القرآن خضعوا بالسجود على الأرض طاعة لله وتصديقًا بالقرآن. وكل ما سقط على شيء فقد خر عليه قال الشاعر:
وخر على الألاء ولم يوسد ** كأن جبينه سيف صقيل

{وَسَبَّحُوا بحْمْد رَبّهمْ} فيه وجهان:
أحدهما: معناه صلوا حمدًا لربهم، قاله سفيان.
الثاني: سبحوا بمعرفة الله وطاعته، قاله قتادة.
{وَهُمْ لاَ يَستَكْبرُونَ} فيه وجهان:
أحدهما: عن عبادته، قاله يحيى بن سلام.
الثاني: عن السجود كما استكبر أهل مكة عن السجود له، حكاه النقاش.
قوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عن الْمَضَاجع} أي ترتفع عن مواضع الاضطجاع قال ابن رواحة:
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

وفيما تتجافى جنوبهم عن المضاجع لأجله قولان:
أحدهما: لذكر الله إما في صلاة أو في غير صلاة قاله ابن عباس والضحاك.
الثاني: للصلاة-روى ميمون بن شبيب عن معاذ بن جبل قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فقال: «إنْ شئْتَ أَنبَأْتُكَ بَأبواب الْخَير: الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفىءُ الخَطيئَة وَقيَامُ الرَّجُل في جَوْف اللَّيل» ثم تلا هذه الآية.
وفي الصلاة التي تتجافى جنوبهم لأجلها أربعة أقاويل:
أحدها: التنفل بين المغرب والعشاء، قاله قتادة وعكرمة.
الثاني: صلاة العشاء التي يقال لها صلاة العتمة، قاله الحسن وعطاء.
الثالث: صلاة الصبح والعشاء في جماعة، قاله أبو الدرداء وعبادة.
الرابع: قيام الليل، قاله مجاهد والأوزاعي ومالك وابن زيد.
{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} فيه وجهان:
أحدهما: خوفًا من حسابه وطمعًا في رحمته.
الثاني: خوفًا من عقابه وطمعًا في ثوابه.
ويحتمل ثالثًا: يدعونه في دفع ما يخافون والتماس ما يرجون ولا يعدلون عنه في خوف ولا رجاء.
{وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفقُونَ} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: يؤتون الزكاة احتسابًا لها، قاله ابن عباس.
الثاني: صدقة يتطوع بها سوى الزكاة، قاله قتادة.
الثالث: النفقة في طاعة الله، قال قتادة: أنفقوا مما أعطاكم الله فإنما هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم أوشكت أن تفارقها.
الرابع: أنها نفقة الرجل على أهله.
قوله: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَآ أُخْفيَ لَهُم مّن قُرَّة أَعْيُنٍ} فيه قولان:
أحدهما: أنه للذين تتجافي جنوبهم عن المضاجع، قاله ابن مسعود.
الثاني: أنه للمجهدين قاله تبيع. وفي {قُرَّة أَعْيُنٍ} التي أخفيت لهم أربعة أوجه:
أحدها: رواه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إني أَعْدَدْتُ لعبَادي الصَّالحينَ مَا لاَ عَينٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْب بَشَرٍ اقْرَأُوا إنْ شئْتُم: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفيَ لَهُم مّن قُرَّة أَعْيُنٍ}» الآية.
الثاني: أنه جزاء قوم أخفوا عملهم فأخفى الله ما أعده لهم. قال الحسن بالخفية: خفية وبالعلانية علانية.
الثالث: أنها زيادة تحف من الله ليست في حياتهم يكرمهم بها في مقدار كل يوم من أيام الدنيا ثلاث مرات، قاله ابن جبير.
الرابع: أنه زيادة نعيمهم وسجود الملائكة لهم، قاله كعب.
ويحتمل خامسًا: اتصال السرور بدوام النعيم.
{جَزَاءً بمَ كَانُوا يَعْمَلُونَ} يعني من فعل الطاعات واجتناب المعاصي. اهـ.

.قال ابن عطية:

ثم أثنى عز وجل على القوم الذين يؤمنون بآياته ووصفهم بالصفة الحسنى بسجودهم عند التذكير وتسبيحهم وعدم استكبارهم بخلاف ما يصنع الكفر من الإعراض عند التذكير وقول الهجر وإظهار التكبر. وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن، وقال ابن عباس: السجود هنا بمعنى الركوع، وقد روي عن ابن جريج ومجاهد أن هذه الآية نزلت بسبب قوم من المنافقين كانوا إذا أقيمت الصلاة خرجوا من المسجد فكان الركوع يقصد من هذا، ويلزم على هذا أن تكون الآية مدنية، وأيضًا فمن مذهب ابن عباس أن القارىء للسجدة يركع واستدل بقوله: {وخر راكعًا وأناب} [ص: 24].
{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَن الْمَضَاجع يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ (16)}.
جفا الرجل الموضع إذا تركه، وتجافى الجنب عن مضجعه إذا تركه وجافى الرجل جنبه عن مضجعه، ومنه في الحديث: «ويجافي بضبعيه» أي يبعدهما عن الأرض وعن يديه، فقوله: {تتجافى جنوبهم} أي تبعد وتزول، ومنه قول عبد الله بن رواحة: الطويل:
نَبيٌّ تجافى جنبه عن فراشه ** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

ويروى يبيت يجافي، قال الزجاج والرماني: التجافي التنحي إلى جهة فوق.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا قول حسن، وكذلك في الصفح عن المخطي في سب ونحوه، والجنوب جمع جنب، و{المضجع} موضع الاضطجاع للنوم، وقال أنس بن مالك: أراد بهذه الآية الصلاة بين المغرب والعشاء، وقال عطاء وأبو سلمة أراد صلاة العشاء الآخرة، وقال أبو محمد: وكانت الجاهلية ينامون من أول المغرب ومن أي وقت شاء الإنسان فجاء انتظار وقت العشاء الآخرة غريبًا شاقًا، وقال أنس بن مالك أيضًا: أراد انتظار العشاء الآخرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤخرها إلى نحو ثلث الليل وفي ذلك أحاديث كثيرة، وقال الضحاك: تجافي الجنب هو أن يصلي الرجل العشاء والصبح في جماعة وهذا قول حسن يساعده لفظ الآية، وقال الجمهور من المفسرين: أراد بهذا التجافي صلاة النوافل بالليل.
قال الفقيه الإمام القاضي: وعلى هذا التأويل أكثر الناس، وهو الذي فيه المدح، وفيه أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر قيام الليل ثم يستشهد بالآية، ذكره الطبري عن معاذ بن جبل، ورجح الزجاج هذا القول بأنهم جزوا بإخفاء فدل ذلك على أن العمل إخفاء أيضًا وهو قيام الليل، وقوله: {يدعون} يحتمل أن يكون في موضع الحال من الموصوفين، أي في وقت التجافي، ويحتمل أن يكون صفة مستأنفة، أي {تتجافى جنوبهم} وهم أيضًا في كل أحوالهم {يدعون} ليلهم ونهارهم. والخوف من عذاب الله، والطمع في ثواب الله. و{ينفقون} قيل معناه الزكاة المفروضة وقيل النوافل والصدقات غير المفروضة وهذا القول أمدح، ثم ذكر تعالى وعدهم من النعيم بما لم تعلمه نفس ولا بشر ولا ملك، وقرأ حمزة واحده {أخفي} بسكون الياء كأنه قال أخفي أنا وهي قراءة الأعمش، وروي عنه {ما أخفيت لهم من قرة أعين}، وقرأ عبد الله {ما نُخفي لهم} بالنون مضمومة، وروى المفضل عن الأعمش {ما يُخفَى لهم} بالياء المضمومة وفتح الفاء، وقرأ محمد بن كعب {ما أَخفى} بفتح الهمزة، أي ما أخفى الله، وقرأ جمهور الناس {أُخفيَ} بفتح الياء على بناء الفعل للمفعول، و{ما} يحتمل أن تكون بمعنى الذي، فعلى القراءة الأولى فثم ضمير محذوف تقديره أخفيه، وعلى قراءة الجمهور فالضمير الذي لم يسم فاعله يجري في العودة على الذي، ويحتمل أن تكون استفهامًا، فعلى القراءة الأولى فهي في موضع نصب ب {أخفي} وعلى القراءة الثانية هي في موضع رفع بالابتداء، و{قرة أعين} ما تلذه وتشتيهه وهي مأخوذة من القر كما أن سخنة العين مأخوذة من السخانة، وأصل هذا فيما يزعمون أن دمع الفرح بارد ودمع الحزن سخن، وفي معنى هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» واقرؤوا إن شئتم: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}.
وقال ابن مسعود: في التوراة مكتوب على الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولاخطر على قلب بشر. وقرأ ابن مسعود وأبو هريرة وأبو الدرداء {قرات} على الجمع، وقوله: {جزاء بما كانوا يعملون} أي بتكسبهم. اهـ.